فصل: تفسير الآيات (132- 135):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} أي أفلا ينظرون فيتفكرون؟ ثم إذا استبصروا أفلا يعتبرون؟ وإذا اعتبروا أفلا يزدجرون؟ أم على وجوههم- في ميادين غَفَلاتِهِم يركضون، وعن سوءِ معاملاتهم لا يرجعون؟ أَلا ساء ما يعملون!
{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)}.
لولا أَنَّ كلمةً اللَّهِ سَبَقَتْ بتأخير العقوبة عن هذه الأمة، وأنه لا يستأصلهم لأنَّ جماعةً من الأولياء في أصلابهم لَعَجَلَّ عقوبتَهم (1)، ولكن... كما ذَكَرَ من الأحوال أمهلهم مدةً معلومة، ولكنه لم يهملهم أصلًا.
وإذا كانت الكلمةُ بالسعادة لقوم والشقاوة لقوم قد سبقت، والعلمُ بالمحفوظ بجميع ما هو كائن قد جرى- فالسعيُ والجهدُ، والانكماشُ والجدُّ.. متى تنفع؟ لكنه من القسمة أيضًا ما ظهر.
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}.
سماعُ الأذى يوجِب المشقة، فأزال عنه ما كان لَحِقَه من المشقة عند سماع ما كانوا يقولون، وأَمَرَهُ: إنْ كان سماعُ ما يقولون يُوحشُكَ فتسبيحُنا- الذي تُثْنِي به علينا- يُرَوِّحُك.
{قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ}: أي في صدر النهار؛ ليُبُارِكَ لكَ في نهارِك، ويَنْعَمَ صباحُك.
{وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} أي عند نقصان النهار؛ ليطيبَ لَيْلُكَ، وينعم رَواحُك.
{وَمِنْ ءَانَآىءِ الَّيْلِ} أي في ساعات الليل؛ فإن كمال الصفوة في ذكر الله حال الخلوة.
{وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} أي اسْتَدِمْ ذِكْرَِ اللَّهِ في جميع أحوالك.
قوله جلّ ذكره: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}.
فضل الرؤية فيما لا يُحْتَاجُ إليه معلولٌ كفَضْلِ الكلامِ، والذي له عند الله مَنْزِلٌ وقَدْرٌ فَلِلْحَقٌ على جميع أحواله غَيْرَةٌ، إذ لا يَرْضَى منه أنْ يبذل شيئًا من حركاته وسكناته وجميع حالاته فيما ليس الله- سبحانه- فيه رِضاءٌ، وفي معناه أنشدوا:
فعيني إذا اسْتَحْسَنتْ غَيرَكم ** أَمَرْتُ الدموعَ بتأديبها

ويقال لمّا أَدَّبَه في ألا ينظرَ إلى زينة الدنيا بكمال نظره وَقَفَ على وجه الأرض بِفَرْدِ قَدَمٍ تصاونًا عنها حتى قيل له {طه} أي طَأْ الأرضَ بِقَدَمِك.. ولِمَ كلُّ هذه المجاهدة وكل هذا التباعد حتى تقف بفَرْدٍ قَدَمٍ؟ طَأْ الأرض بقدميك.
{زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} الفتنة ما يُشْغَل به عن الحقِّ، ويستولي حُبُّه على القلب، ويُجَسِّر وجودُه على العصيان، ويحمل الاستمتاع به على البَطَر والأشَر.
قوله جلّ ذكره: {وَرِزْقُ رَبِِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.
القليلُ من الحلال- وفيه رضاءُ الرحمن- خيرٌ من الكثير من الحرام والحطام.. ومعه سُخْطُه. ويقال قليلٌ يُشْهِدُكَ ربَّكَ خيرٌ مِنْ كثير يُنْسِيكَ ربَّك. اهـ.

.تفسير الآيات (132- 135):

قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أمر بتزكية النفس أتبعه الإعلام بأن منها تزكية الغير، لأن ذلك أدل على الإخلاص، وأجدر بالخلاص، كما دل عليه مثل السفينة الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يأمر بالمعروف ومن يتركه فقال: {وأمر أهلك بالصلاة} كما كان أبوك إسماعيل عليه السلام، ليقودهم إلى كل خير {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45] ولم يذكر الزكاة لدخولها في التزهيد بالآية التي قبلها.
ولما كانت شديدة على النفس عظيمة النفع، قال: {واصطبر} بصيغة الافتعال {عليها} أي على فعلها، مفرغًا نفسك لها وإن شغلتك عن بعض أمر المعاش، لأنا {لا نسألك رزقًا} أي نكلفك طلبه لنفسك ولا لغيرك، فإن ما لنا من العظمة يأبى أن نكلفك أمرًا، ولا نكفيك ما يشغلك عنه.
ولما كانت النفس بكليتها مصروفة إلى أمر المعاش، كانت كأنها تقول: فمن أين يحصل الرزق؟ فقال: {نحن} بنون العظمة {نرزقك} لك ولهم ما قدرناه لكم من أيّ جهة شئنا من ملكنا الواسع وإن كان يظن أنها بعيدة، ولا ينفع في الرزق حول محتال، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا تدأبوا في تحصيله والسعي فيه، فإن كلًا من الجاد فيه والمتهاون به لا يناله أكثر مما قسمناه له في الأزل ولا أقل، فالمتقي لله المقبل على ذكره واثق بوعده قانع راض فهو في أوسع سعة، والمعرض متوكل على سعيه فهو في كد وشقاء وجهد وعناء أبدًا {والعاقبة} أي الكاملة، وهي التي لا عاقبة في الحقيقة غيرها، وهي الحالة الجميلة المحمودة التي تعقب الأمور، أي تكون بعدها {للتقوى} أي لأهلها، ولا معولة على الرزق وغيره توازي الصلاة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة- أخرجه أحمد عن حذيفة وعلقه البغوي في آخر سورة الحجر، وقال الطبراني في معجمه الأوسط: ثنا أحمد- هو ابن يحيى الحلواني- ثنا سعيد- هو ابن سليمان- عن عبد الله بن المبارك عن معمر عن محمد بن حمزة عن عبد الله بن سلام- رضي الله عنهم- قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بأهله الضيق أمرهم بالصلاة، ثم قرأ {وأمر أهلك بالصلاة} الآية.
لا يروى هذا الحديث عن عبد الله بن سلام إلا بهذا الإسناد، تفرد به معمر، وقال الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير في تفسيره: وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي عبد الله بن أبي زياد القطران ناسيارنا جعفر عن ثابت قال: كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أصابته خصاصة نادى أهله: «يأهلاه! صلوا صلوا»، قال ثابت: وكان الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة، وقد روى الترمذي وابن ماجه كلاهما في الزهد- وقال الترمذي: حسن غريب- من حديث عمران بن زائدة عن أبيه عن أبي خالد الوالبي عن أبي هريرة- رضي الله عنهم- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلًا ولم أسد فقرك» وروى ابن ماجه من حديث الضحاك عن الأسود عن ابن مسعود- رضي الله عنهم-: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «من جعل الهموم همًا واحدًا هم المعاد، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم أحوال الدنيا لم يبال الله في أيّ أوديتها هلك» وروى أيضًا من حديث عمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت- رضي الله عنهم-: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمر، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة».
ولما قدم في هذه السورة ما ذكر من قصص الأولين وأخبار الماضين، مبكتًا بذلك من أمر قريش بالتعنت من اليهود، فلم يقدروا على إنكار شيء منه ولا توجيه طعن إليه، وخلله ببدائع الحكم، وغرائب المواعظ في أرشق الكلم، وختم ذلك بأعظم داع إلى التقوى، عجب منهم في كونهم لا يذعنون للحق أنفة من المجاهرة بالباطل، أو خوفًا من سوء العواقب، فقال: {وقالوا} ولعله عطف على ما يقدر في حيز قوله: {أفلم يهد لهم} إلى قوله: {إن في ذلك لآيات} من أن يقال: وقد أبوا ذلك ولم يعدوا شيئًا منه آية: {لولا} أي هلا ولم لا {يأتينا} أي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم {بآية} أي مثل آيات الأولين {من ربه} المحسن إليه، دالة على صدقه.
ولما تضمن هذا أنهم لم يعدوا شيئًا من هذه البينات- التي أدلى بها على من تقدمه- آية مكابرة، استحقوا الإنكار، فقال: {أولم} أي ألم يأتهم من الآيات في هذا القرآن مما خصصتك به من الأحكام والحكم في أبلغ المعاني بأرشق النظوم ما أعجز بلغاءهم، وأبكم فصحاءهم، فدل قطعًا على أنه كلامي، أو لم {تأتهم بينة ما} أي الأخبار التي {في الصحف الأولى} من صحف إبراهيم وموسى وعيسى وداود عليهم السلام في التوارة والإنجيل والزبور وغير ذلك من الكتب الإلهية كقصتي آدم وموسى المذكورتين في هذه السورة وغيرهما مما تقدم قصة لها كما هي عند أهلها على وجوه لا يعلمها إلا قليل من حذاقهم من غير أن يخالط عالمًا منهم أو من غيرهم، ومن غير أن يقدر أحد منهم على معارضة ما أتى به في قصتها من النظم المنتج قطعًا أنه لا معلم له إلا الله المرسل له، وأن أتى به منها شاهد لما في الصحف الأولى من ذلك بالصدق، لأنه كلام الله، فهو بينة على غيره لإعجازه، فجميع الكتب الإلهية مفتقرة إلى شهادته افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة، ولا افتقار له بعد العجز عنه إلى شيء أصلًا، فهو أعظم من آيات جميع الأنبياء اللاتي يطلبون مثلها بما لا يقايس.
ولما تبين بذلك أنهم يطعنون بما لا شبهة لهم فيه أصلًا، أتبعه ما كان لهم فيه نوع شبهة لو وقع، فقال عاطفًا على {ولولا كلمة}: {ولو أنا أهلكناهم} معاملة لهم في عصيانهم بما يقتضيه مقام العظمة {بعذاب من قبله} أي من قبل هذا القرآن المذكور في الآية الماضية وما قاربها، وفي قوله: {ولا تعجل بالقرآن} صريحًا، وكذا في مبنى السورة {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} {لقالوا} يوم القيامة: {ربنا} يا من هو متصف بالإحسان إلينا {لولا} أي هلا ولم لا {أرسلت} ودلوا على عظمته وعلو رتبته بحرف الغاية فقالوا: {إلينا رسولًا} أي يأمرنا بطاعتك {فنتبع} أي فيتسبب عنه أن نتبع {آياتك} التي يجيئنا بها.
ولما كان اتباعهم لا يستغرق زمان القبل قالوا: {من قبل أن نذل} بالعذاب هذا الذل {ونخزى} بالمعاصي التي عملناها على جهل هذا الخري فلأجل ذلك أرسلناك إليهم وأقمنا بك حجة عليهم، ونحن نترفق بهم، ونكشف عن قلوب من شئنا منهم ما عليها من الرين بما ننزل من الذكر ونجدد من الآيات حتى نصدق أمرك ونعلي شأنك ونكثر أتباعك وننصر أشياعك.
ولما علم بهذا أن إيمانهم كالمتنع، وجدالهم لا ينقطع، بل إن جاءهم الهدى طعنوا فيه، وإن عذبوا قبله تظلموا، كان كأنه قيل: فما الذي أفعل معهم؟ فقال: {قل كل} أي مني ومنكم {متربص} أي منتظر حسن عاقبة أمره ودوائر الزمان على عدوه {فتربصوا} فإنكم كالبهائم ليس لكم تأمل، ولا تجوزون الجائز إلا عند وقوعه {فستعلمون} أي عما قريب بوعد لا خلف فيه عند كشف الغطاء {من أصحاب الصراط} أي الطريق الواضح الواسع {السويّ} أي الذي لا عوج فيه ولا نتوّ، فهو من شأنه أن يوصل إلى المقاصد.
ولما كان صاحب الشيء قد لا يكون عالمًا بالشيء ولا عاملًا بما يعلم منه، قال: {ومن اهتدى} أي من الضلالة فحصل على جميع ما ينفعه واجتنب جميع ما يضره، نحن أم أنتم؟ ولقد علموا يقينًا ذلك يوم فتح مكة المشرفة، واشتد اغتباطهم بالإسلام، ودخلوا رغبة في الحلم والكرم، ورهبة من السيف والنقم، وكتنوا بعد ذلك يعجبون من توقفهم عنه ونفرتهم منه، وهذا معناه أنه صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه هم السعداء الأغنياء الراضون في الدنيا والآخرة، وهو عين قوله تعالى: {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} فقد انطبق الآخر على الأول، ودل على أن العظيم يعامل بالحلم فلا يعجل- والله أعلم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

وأما قوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة}.
فمنهم من حمله على أقاربه ومنهم من حمله على كل أهل دينه، وهذا أقرب وهو كقوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكواة} [مريم: 55] وإن احتمل أن يكون المراد من يضمه المسكن إذ التنبيه على الصلاة والأمر بها في أوقاتها ممكن فيهم دون سائر الأمة يعنى كما أمرناك بالصلاة فامر أنت قومك بها، أما قوله: {واصطبر عَلَيْهَا} فالمراد كما تأمرهم فحافظ عليها فعلًا، فإن الوعظ بلسان الفعل أتم منه بلسان القول، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعلي عليهما السلام كل صباح ويقول: «الصلاة» وكان يفعل ذلك أشهرًا، ثم بين تعالى أنه إنما يأمرهم بذلك لمنافعهم وأنه متعال عن المنافع بقوله: {لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} وفيه وجوه:
أحدها: قال أبو مسلم: المعنى أنه تعالى إنما يريد منه ومنهم العبادة ولا يريد منه أن يرزقه كما تريد السادة من العبيد الخراج، وهو كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56، 57].
وثانيها: {لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا} لنفسك ولا لأهلك بل نحن نرزقك ونرزق أهلك، ففرغ بالك لأمر الآخرة، وفي معناه قول الناس: من كان في عمل الله كان الله في عمله.
وثالثها: المعنى أنا لما أمرناك بالصلاة فليس ذلك لأنا ننتفع بصلاتك.
فعبر عن هذا المعنى بقوله: {لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا} بل نحن نرزقك في الدنيا بوجوه النعم وفي الآخرة بالثواب، قال عبد الله بن سلام: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بأهله ضيق أو شدة أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية واعلم أنه ليس في الآية رخصة في ترك التكسب لأنه تعالى قال في وصف المتقين: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} [النور: 37]، أما قوله: والعاقبة للتقوى فالمراد والعاقبة الجميلة لأهل التقوى يعني تقوى الله تعالى، ثم إنه سبحانه بعد هذه الوصية حكى عنهم شبهتهم، فكأنه من تمام قوله: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ} [طه: 130] وهي قولهم: {لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَةٍ مّن رَّبّهِ} أوهموا بهذا الكلام أنه يكلفهم الإيمان من غير آية، وقالوا في موضع آخر: {فليأتنا بآية كما أرسل الأولونِ} [الأنبياء: 5] وأجاب الله تعالى عنه بقوله: {أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا في الصحف الأولى} وفيه وجوه: أحدها: أن ما في القرآن إذ وافق ما في كتبهم مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشتغل بالدراسة والتعلم وما رأى أستاذًا ألبتة كان ذلك إخبارًا عن الغيب فيكون معجزًا.
وثانيها: أن بينة ما في الصحف الأولى ما فيها من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وبنبوته وبعثته.
وثالثها: ذكر ابن جرير والقفال أن المعنى: {أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا في الصحف الأولى} من أنباء الأمم التي أهلكناهم لما سألوا الآيات وكفروا بها كيف عاجلناهم بالعقوبة فماذا يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآيات كحال أولئك، وإنما أتاهم هذا البيان في القرآن، فلهذا وصف القرآن بكونه: {بَيّنَةُ مَا في الصحف الأولى} واعلم أنه إنما ذكر الضمير الراجع إلى البينة لأنها في معنى البرهان والدليل، ثم بين أنه تعالى أزاح لهم كل عذر وعلة في التكليف، فقال: {وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} والمراد كان لهم أن يقولوا ذلك فيكون عذرًا لهم، فأما الآن وقد أرسلناك وبينا على لسانك لهم ما عليهم وما لهم فلا حجة لهم ألبتة بل الحجة عليهم.
ومعنى: {مِن قَبْلِهِ} يحتمل من قبل إرساله ويحتمل من قبل ما أظهره من البينات فإن قيل فما معنى قوله: {وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم لَقَالُواْ} [طه: 134] والهالك لا يصح أن يقول قلنا المعنى لكان لهم أن يقولوا ذلك يوم القيامة ولذلك قال: {مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى} وذلك لا يليق إلا بعذاب الآخرة، روي أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال عليه السلام: «يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة: الهالك في الفترة يقول لم يأتني رسول وإلا كنت أطوع خلقك لك». وتلا قوله: {لَوْلآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} والمغلوب على عقله يقول لم تجعل لي عقلًا أنتفع به، ويقول الصبي: كنت صغيرًا لا أعقل فترفع لهم نار، ويقال لهم: ادخلوها فيدخلها من كان في علم الله تعالى أنه شقي ويبقى من في علمه أنه سعيد، فيقول الله تعالى لهم: «عصيتم اليوم فكيف برسلي لو أتوكم» والقاضي طعن في الخبر وقال: لا يحسن العقاب على من لا يعقل، واعلم أن في هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال الجبائي: هذه الآية تدل على وجوب فعل اللطف إذ المراد أنه يجب أن يفعل بالمكلفين ما يؤمنون عنده ولو لم يفعل لكان لهم أن يقولوا هلا فعلت ذلك بنا لنؤمن؟ وهلا أرسلت إلينا رسولًا فنتبع آياتك؟ وإن كان المعلوم أنهم لا يؤمنون ولو بعث إليهم الرسول لم يكن في ذلك حجة، فصح أنه إنما يكون حجة لهم إذا كان في المعلوم أنهم يؤمنون عنده إذا أطاعوه.
المسألة الثانية:
قال الكعبي قوله: {لَولآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} أوضح دليل على أنه تعالى يقبل الاحتجاج من عباده، وأنه ليس قوله: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] كما ظنه أهل الجبر من أن ما هو جور منا يكون عدلًا منه بل تأويله: أنه لا يقع منه إلا العدل فإذا ثبت أنه تعالى يقبل الحجة فلو لم يكونوا قادرين على ما أمروا به لكان لهم فيه أعظم حجة.
المسألة الثالثة:
قال أصحابنا: الآية تدل على أن الوجوب لا يتحقق إلا بالشرع إذ لو تحقق العقاب قبل مجيء الشرع لكان العقاب حاصلًا قبل مجيء الشرع.
ثم إنه سبحانه ختم السورة بضرب من الوعيد فقال: {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبّصٌ} أي كل منا ومنكم منتظر عاقبة أمره وهذا الانتظار يحتمل أن يكون قبل الموت، إما بسبب الأمر بالجهاد أو بسبب ظهور الدولة والقوة، ويحتمل أن يكون بالموت فإن كل واحد من الخصمين ينتظر موت صاحبه، ويحتمل أن يكون بعد الموت وهو ظهور أمر الثواب والعقاب، فإنه يتميز في الآخرة المحق من المبطل بما يظهر على المحق من أنواع كرامة الله تعالى، وعلى المبطل من أنواع إهانته {فَسَتَعْلَمُونَ} عند ذلك {مَنْ أصحاب الصراط السوي وَمَنِ اهتدى} إليه وليس هو بمعنى الشك والترديد، بل هو على سبيل التهديد والزجر للكفار، والله أعلم. اهـ.